السبت، 15 مايو 2010

قصة قصيرة
حكاية عادية جدا ً
"ندرن على يابنى ياحبيبى لو ربنا نجاك ، لأفرق عيش وفول نابت على باب الست حورية ! "
كان هذا دعاؤها وهى تحتضنه قبل أن تنتزعه الممرضة برفق من بين ذراعيها وتختفى معه خلف باب غرفة عمليات مستشفى الهلال

أنزوت ... بركن غرفة الإنتظار المتواضعة .... بجسمها النحيل وفستانها الأسود المشغول بالقصب عند نهاية الأكمام الطويلة وحول الرقبة والذيل الذى كان فوق القدم بشبر تقريبا ً ، بينما وجهها يحيطه الإشارب الشيفون الذى تداخلت ألوانه الباهته ، بدا وجهها شاحباً كالبدر فى ليل ٍ غائم - وعيناها مترددتان بين الخوف والرجاء ، جلست تتمتم بما حفظته منذ طفولتها- ولم تزد عليه – من القرأن الكريم : ياسين والرحمن والواقعة وتبارك ، بينما جلس هو على بعد خطوات منها يهز رجله اليسرى ويدخن ويدفع بحبات مسبحته ( الكهرمان) بسرعة فترتطم ببعضها محدثة صوتاً يسمعه كل من فى الغرفة ، لم يكن يسبح بقدر ماكان ينفس عن نفسه توتره الداخلى الذى كان حريصا ً على ألا يظهره لها ليبدو قويا ً متماسكا ً كما يحب أن يراه الناس دائما ً
أنيقاً كعادته ، بدلة كاملة ، وحذاء تفصيل ملمع ، كان قد خلع الكاكولا والقفطان ولبس البذلة الأفرنجى والطربوش بعد أن تخرج فى الأزهروحصل على شهادة العالمية ، بعدها بسنوات قليلة خلع الطربوش أيضا ً ، ليبدو شعر رأسه الأن خفيفاً ومنحسراً عند المنطقة الوسطى تتخلله خصلات رمادية بعد أن خفت صبغة الشعر السوداء - ماركة الحصان ! – التى لم يضعها منذ شهور !.

فى المرات القليلة التى جئنا فيها إلى عيادة الدكتور أدمون للمتابعة قبل إجراء العملية ، كان المرضى يملأون كل الغرف ويفترشون الدرج من مدخل العمارة وحتى الدور الثالث حيث العيادة ، مرضى من كل الأعمار من أهل البندر ومن أهل القرى المحيطة ومن عموم المحافظة ، محافظة بنى سويف
" الدكتور أدمون شاطر ومتعلم فبلاد بره ، وأيده فيها الشفا ، دا فيه عيانين بيجوله من مصر ومن الصعيد الجوانى "
كان يقضى الوقت الطويل والممل فى الإنتظار منهمكا ً فى عد المرضى الموجودين ! ليحسب كم يكسب الدكتور أدمون فى اليوم ومن ثم فى الشهر . . . متوسط عشرون مريضا ً فى اليوم فى أربع جنيهات للكشف الواحد بثمانين . . فى خمسة وعشرين يوما ً . . بألفى جنيه !
. . ألفى جنيه !
هذا بخلاف العمليات التى لن تقل بأى حال عن مثل هذا المبلغ ،
أربعة ألاف جنيه فى الشهر !! بينما مرتبه هو لا يزيد عن أربعين جنيه شهريا ؟ !ً، يعنى واحد الى مئه ! . . أربعة ألاف جنيه فى الشهر ! ثمانية وأربعون ألفا ًفى السنة !!! هذا المبلغ يساوى تقريبا ً الميزانية السنوية لمدرسة النيل الثانوية بنين التى يعمل بها مدرس أول لغة عربية منذ إنتقاله من القاهرة الى بنى سويف يوم أن كان أبنه هذا مازال رضيعا ً، كان هذا سنة إعلان الوحدة بين مصر وسوريا ، هذا مبلغ لم يمسكه مرة فى حياته ، ويعتقد أنه لن يمسكه يوما ً فى حياته . . .
كيف يمكن للدكتور أدمون أن يحسن التصرف فى تلك الأموال الطائلة . . ولا يبددها فيما لا يفيد !! سأل نفسه . . . "لابد طبعاً أن يشترى أطيان وعقارت لأن الفلوس قيمتها تقل مع الوقت ...... ويجب عليه أن يستبقى مبلغا ً معتبرا ً للطوارىء . . لابد أن له بيتا ًجميلا ً (فيلا ) تحيطها الخضرة والأشجار من كل مكان ! . . . تسائل فى حيرة ! كم يصرف الدكتور على أسرته فى الشهر ؟ ! ثلاثمائة جنيه مثلا ً ؟ . . ويدخر الباقى؟ أو أكثر ؟ أو أقل ؟ هل الدكتور أدمون بخيلا ً ؟ أكيد هو بخيل وإلا لما ترك عيادته بهذا الإهمال ! . . هل له أسرة أصلا ً ؟ هل يعيش الدكتور أدمون وحيدا ً ؟ ! ! ". . . لم يكن يقطع تلك التخيلات إلا صوت الممرضة وهى تنادى ليستعدوا للدخول على الدكتور أدمون ....... الدكتور أدمون . . . "هذا ألى ماجابتوش ولادة" !

كان أول من أكمل تعليمه فى قريته الموغلة فى أعماق الصعيد ، يومها . . يوم أن عاد إلى قريته حاملا ً الشهادة العالية ( العالمية ) من الأزهر أقيمت له زفة بالمزمار البلدى من محطة القطار لغاية البيت حيث أستقبل المهنئين من أهل القرية - الطوايل الغربية مركز ساقلته – ومن أهالى القرى المحيطة ، أقيمت الولائم لثلاثة ليال أنشد فيها المنشدون والمداحون السيرة النبوية والسيرة الهلالية
. . . كان هذا فى عام نكبة فلسطين .
عاد بعدها إلى القاهرة ليعمل مدرسا ً للغة العربية والدين فى أحد مدارس روض الفرج الإعدادية لسنوات ، تزوج خلالها وأنجب ولدا ً توفى وهوفى الثالثة ، ثم بنتان قبل أن يرزق بأبنه هذا الذى هو مخدرا ً الأن بين يدى الدكتور أدمون !

كان يعتبر أقامته فى بنى سويف التى أنتقل أليها مترقيا ًلمدرس ثانوى عارضة ومؤقتة وأسثنائية ، سنتان أو ثلاثة على الأكثر يعود بعدها الى القاهرة التى أدمنها منذ أن كان طالبا ً أزهريا ًُ مغتربا ، القاهرة التى عاش فيها غريبا ً مغتربا ً وسط غرباء ومغتربين ،لم تعبأ به يوما ً ولم تعره أى أنتباه !
أما بنى سويف التى كان فيها غريبا ً أيضا ً لا أهل له ولا أقارب ولا عزوة ، إلا أنه لم يكن يوما ً فيها مغتربا ً أحتضنته وسرعان ماكون فيها صداقات و معارف ، كانت بنى سويف كالمرأة الحنون التى أوته وحوت عظامه رغم صدوده الدائم عنها ، أما القاهرة التى عشقها كأمرأة لعوب ، غوته ، ولم تمكنه منها أبدا ً !

مر الوقت بطيئا ً وكئيبا ً
أمعنت هى فى قراءة القرأن وتدبر أياته لتباعد بينها وبين طيف أخيها الذى جاؤا به صباح يوم مرفوعا ً فوق الأعناق ووضعوه وسط البيت وقد فارق الحياة !، لا تنسى ذلك اليوم أبدا ً ، يومها إحتشد أهل القرية داخل البيت وخارجه ظنا ً منهم أنه مات مقتولا ً ! ، ساعتها تجمدت الدموع فى عينيها حين نظرت الى عينيه شبه المغمضتين وكأنه خرج منهما شعاعا ًغمرها بالحزن الذى لم يفارقها طوال حياتها !
حاولت جاهدة طرد تلك الأطياف والذكريات و التعوذ منها
لم تكن هذة هى الغدرة الأولى للدنيا التى أطاحت بصفائها وروحها المرحة الى غير رجعة ، ولن تكون الأخيرة ! ، فقبل أخيها رحلت أمها وهى فى العاشرة بعد أن وضعت أختها الصغيرة بأيام
وبعد تلك الحادثة بسنتين ذهبت لتوقظ أبوها ذات صباح بعد أن أعدوا له الفطور فلم يرد عليها ولم يقم من نومه ، كانت النومة الأخيرة ! كالعادة دهمها الموت فجأة وسلب منها الأمان الى الأبد !
كانت قد أعتادت من الدنيا الغدر فلم تأمنها أبدا ً ، بكت بحرقة بين ضلوعها بدون صوت أو دموع وطلبت من الله أن يسلم هذة المرة !

كان قد مر ساعتان ونصف كدهر بينما كان ينظر هو الى ساعته كل ربع ساعة تقريبا ً ، وأحرق مايقرب من علبة سجائر كاملة ،

تعلقت عيناهما وقلبيهما بمقبض باب غرفة العمليات وهو يدور ويُفتح الباب ليطل عليهما الدكتور أدمون بنظارته وقد أنزلقت الى طرف أنفه وبدا على ملامحه الإعياء الشديد . . أنفطر قلبها ولم تقوى حتى على النهوض من مكانها كان قد أنهكتها ذكريات الفقد وغدر الدنيا والرعب من أن يكون اليوم . . نظر إليها من فوق النظارة ببرود الأطباء المعهود قبل أن يبتسم أبتسامة شاحبة باهتة ويقول بصوته الأنثوى :" مبروك الحمدلله على السلامة" . . لم يدع لهما مجالا ً للرد أو السؤال ومضى مسرعا ً وهويقول :" حشوفه بكرة الصبح . . وممنوع أكل المانجة "، (كانت الشمس قد رحلت وحل الليل)
لم أدرى الى الأن لماذا المانجة بالذات !
كان الدكتور أدمون قد أخذ أجرة يده مقدما ً قبل أن يدخل غرفة العمليات ، مائتى جنيه بالتمام والكمال ، أقترض نصفها من صديق له ، بينما إجتهدت هى فى عمل جمعية مع الجيران بعشرة جنيه فى الشهر للسداد المائة جنيه الأخرى تبعتها بجمعية أخرى لرد دين الصديق الذى صبر عليهما عشرة أشهر كاملة !

" أم وأولادها ! " قالت الممرضة وهى تخرج من غرفة العمليات وتفتح كفها مفصحة عن لفافة صغيرة من القطن الطبى والشاش بها حصوة كبيرة فى حجم ( ) وثلاث حصوات صغيرة فى حجم ( ) "فعلا ً أم وأولادها ! . . سبحان الله" قالت الأم بصوت متهدج فرحا ً ولهفة .
كانت تلك الحصوات بهذا الحجم لا تكون إلا لشيخ كبيروليس لطفل فى السادسة من عمره !
، كان يتلوى من الألم وهو يصيح :"بطنى بتوجعنى ياماما " فترد عليه فى كل مرة وقلبها يتمزق : " قلب أمك يا بنى "
حين تواترت عليه منذ أن كان فى الرابعة نوبات المغص الكلوى وزادت حدتها وأصبحت لايجدى معها أعشاب الكراوية والنعناع والأيسون ووصفات العطارين
لم يكن هناك بد - بعد أن وصل إلى السادسة وأوشك على دخول المدرسة - من إستشارة الدكتور أدمون أشهر الجراحين فى المحافظة ومصر الوسطى الذى أشار بعمل الأشعة التى اوضحت بجلاء حصوة على الكلى تلزمها جراحة عاجلة
الحصوات بهذا الحجم وفى مثل هذا السن لم يكن لها إلا تفسير واحد
"لقد ولد بها " هذا ما قاله الأطباء !


بدأت بعد صلاة الظهر ، وقد أصطحبت خادمتها الصغيرة التى جلبتها من قريتها الصغيرة مسقط رأسها وإحدى جاراتها ، وأصرت أن تقف بنفسها أمام جامع الست حورية تغرف لتملأ أرغفة الخبز البلدى بالفول النابت واحدا ً تلو الأخر ، تجمع حولها المارة وكثير من الشحاتين والمساكين والمجاذيب الموجودين بشكل شبه دائم حول الجامع مجاورين للست حورية
كانت الأيدى المتدافعة حولها لنساء وأطفال ورجال من كل الأعمار ، لم تعبأ ولم تتذمر من التدافع حولها والذى كان يصيبها فى أحيان كثيرة ، ولا ثيابها التى تلطخت بشربة الفول النابت ، ولا الإشارب الذى تراجع كثيرا ً حتى ظهر نصف شعرها ،
مع أذان العصر كانت قد فرغت من كل ما لديها من الفول النابت والعيش البلدى ،
دخلت المسجد وصلت ركعتين شكر لله على أن شفى الله لها أبنها ومكنها من الوفاء بالنذر .

لم أدرى لماذا إختارت جامع الست حورية بالذات للوفاء بهذا النذر !
! الست حورية الولية الطاهرة النقية ! أم الغلابة والمساكين و الطلعة البهية ،
فى حضرة ذلك الموت المعتق ، ورائحة الموت الأسطورى وبقايا رائحة البخور المبثوث فى كل زاوية من زوايا الضريح الذى تعلوه قبة ضخمة وتتوسطه مقصورة الست حورية كجزيرة سكون أبدى وسط حركة حولها لا تنقطع ! أنبعث من فتحات على محيط القبة ضوء خافت مستحى أضفى على المقصورة الذهبية وطرحة الست حورية مسوحا ًمن الغموض والجلال تملأ القلوب بالرهبة وقد بدأت الشمس تميل الى الغروب
"شالله ياست حورية "
سمعت صوتا ً مخفيا ًيهمهم
. . . . . . .


كانت تلك المرأة هى أمى ، وكان هو أبى ، وكنت أنا ذلك الطفل ، وكانت الست حورية تسكن بجوارنا !!!

هناك تعليق واحد:

مصطفى الخطيب يقول...

ياه أيه الحلاوة دى