الخميس، 4 ديسمبر 2008

قصة قصيرة : "شجرة المانجه"

شجرة المانجه

لم تكـن تخطئها عين ، موفورة الفروع والأوراق والثمار ، تقبع فى الحوش الخلفى للبيت المجاور ، وعلى قربها هذا كانت بالنسبة لنا ونحـن صغـار كالحلم بعيد المنال ، سـاعـات طويلة كنت أقضيها فــى الشرفة أتاملها ، أراقـب سكانها الصغار حـين يؤون إليـها عـند الغروب ، و ينطلقـون منها فـى الصبـاح إلى السماء الواسعة ، أحفظ تفاصيلها تماما ، أرصد الثمار متى ظهرت ، وحـين تنضج و تأتى الريح برائحتها لتمـلأ أنفـى ، أزداد شوقا وحنينا إليها.

إلا أن الصبية فـى الحـى لـم يكتفـوا مثلـى بهـذا الغزل والشوق مـن بعيد ، فمـا أن تبدو بشائرهـا حتـى ينهالـوا عليها بالحجارة محاولين إصابة إحــدى الثمار ، وهـذا نادرا ما كـان يحدث ، وإن حدث كانت الثمرة تسقط داخل الحوش ، فلا يستطيعون الوصول اليها ، كانت محاولاتهم عبثية ، ولكنهم لم يكفوا عنها.
اِلا أن الأمـر تطـور حين تجرأ أحدهم وقــرر أن يأتـى بالثمرة التى أصابها ، شبك له زميله أصابعه ليضع قدمه ... يرفعه لأعلى .... يضـع قدمه اليسرى علـى كتفه الأيمن ثم القدم اليمنى علـى الكتف الأيسر ... يرفع ذراعاه لأعلى ويشب كل منهما على أطراف اصابعه ...مازال مجموع طولهما أقل من إرتفاع السور ... مرة أخرى يحولان ... وأخير ينجح فى أن يتعلق بحافة السور ... يدفعه زميله ممسكا باِحدى قدميه لأعلى بينما هويبذل مجهودا مضنيا ليرفع جسده ، غير عابىء بشظايا الزجاج المثبت على الحافة... وينجح أخيرا فى أن يركب السور ... وبسرعة يستدير ويلقى بنفسه داخل الحوش.

كان بقية الصبية يقفون بعيدا يرقبون تلك المحاولة ، وهم مستعدون لجميع نتائجها ،غاب الولد داخل الحوش ، وزميله ينتظر تحت السور ، مرت دقائق ببطء شديد ، والكل يحبس أنفاسه ، وإذا بأحد الصبية يصيح فجأة وبصوت عال : " إلحـــق.... يا ابو مكرم حرامى" ... هذا الصياح لم يرق لباقى الصبية ... فنظر اليه بعضهم نظرة ... فلم يكررها ، وعادوا يرقبون زميلهم الذى أختفى ، وفجأة هتف أحدهم : ( أنظروا .. هاهو ) ... وإذا بيد صغيرة ممسكة بثمرة مانجه تظهر أعلى السور ... ثم تظهر اليد الأخرى وقد تخضبت بالدماء الممزوج بالتراب .. .يطل برأسه المعفر ويعود ليركب السور ثم يتدلى معلقا... محركا رجليه باحثا عن كتفى زميله ... وما أن يتمكن منهما يخطو به خطوتين وفى الثالثة يسقطان ... بسرعة يقفان.. . ينفض التراب عن رأسه غير مبالى بالجرح فى ساعده ولا ثيابه التى تمزقت ، ممسكا بثمرة المانجه ، يلتف حولهما الصبيه ليروا الثمرة عن قرب ، ككتلة واحدة يتحركون حتى يغيبوا عن الأنظار .

تلك المحاولة الناجحة زادت بشكل ملحوظ من عدد الصبيه قاذفى الحجارة على الشجرة من جهتين على الأقل ، نادرا ماأصابت الهدف ، وكثيرا ما طاشت فأصابت زجاج النوافذ ، وسقطت داخل الغرف وعلى موائد الطعام ، مرات عديدة خرج اليهم أبو مكرم متوعدا ليكفوا وإلا أحضر لهم الشرطة دون جدوى ، ومرات خرج إليهم بعض الجيران بالعصى ففروا جميعا فى لحظة ، وليعود الأمر كما كان بعد يوم أو يومين.

إجتمع الجيران فى منزل أبو مكرم ليجدوا حلا لتلك المشكلة ، أقترح أحدهم أن يقطعوا الشجرة ويتخلصوا منها ، نظر بعضهم إلى بعض ولم يرق لهم ذلك الحل ، وأشار آخر أن يقوم أبو مكرم بتعيين حارس على الشجرة يمنع الصبية منها ، فرد أبو مكرم : ومن أين لى بأجر هذا الحارس؟ قال البعض : يتحمل جميع الجيران أجر الحارس ، فصاح شاب: ولماذا لا تعين المديرية حارسا للشجرة لحماية أمن السكان ؟

علت الأصوات بين مؤيد ومعارض ، وإذا بصوت حاد ومميز يشق الجلبة : يا جماعة الموضوع بسيط ، إن أردتم أن تحلوا المشكلة فما عليكم إلا أن ترووا الشجرة عدة مرات بالجاز وبعدها انتظروا النتيجة ، وهذا ما نفذه أبو مكرم بالفعل .
والآن مرت سنوات ، والشجرة لم تعد تثير المشاكل ، موفورة الظلال والفروع والأوراق ، ولكنها لم تعد تثمر.

مصطفى الخطيب وأبناؤه
2007

هناك 3 تعليقات:

مصطفى الخطيب يقول...
أزال المؤلف هذا التعليق.
مصطفى الخطيب يقول...

الأخ مصطفى الخطيب
نبارك لأنفسنا ولمنتديات أزاهير في أنضمماك مع نخبة من الكاتبات والكتاب المتميزين في دوحة أزاهير الأبداع والتألق . لأكمال مشوار مع الكلمة الطيبة والإبداع
نص شجرة المانجه : نص مفعم بالخيال الخصب ذلك الذي يصور الحدث وكأنك أمام شريط سينمائي بكل تفاصيله وترى السرد فيه بسيط غير معقد نظرا لأرتباط الحدث مع الصبية الذين يعيشون حياة غير معقدة
تمثل أمامنا بكل فطرتها وعفويتها وكانت اللغة التي تم توضيفها في عملية السرد شفافة وغير متكلفة وكأنها صاغة نفسها في عملية النسج .. قد أريد أن أبوح لك بسر أجد النص وشخوصه وشجرة المانجه
تذهب بي بعيدا عن غير هذا المعنى البسيط وقد يكون لي الترميز واضح من خلال ( أن ترووا الشجرة بالجاز) حقيقتا أرى فيها بعد رمزي وكأنك تقول أن( النفط أو الثروات هي سبب تعاستنا وشقانا ) وما تهافت وتزاحم الدول إلا من أجل هذه النفط .. أخي هذا مجرد رئي وقد يقرءها اخرى بشكل مختلف عني
تقبل تحيتي وتقديري لحظورك ومشاركتك الجميلة
علي خريبط الخليفه

مصطفى الخطيب يقول...

أخى على
سعدت بك وبمنتاداكم ،سعدت بالتفاعل السريع الذى لم أتوقعه بهذة السرعة، سعدت برأيك، سعدت بتلك اللمحة الجميلة عن البعد الرمزى ( النفط أو الثروات هي سبب تعاستنا وشقانا ) ، ولا أخفيك سرا أن هذا المعنى والرمز لم أتعمده ولكن هكذا هو العمل الفنى حين ينفصل عنك بالنشر يصبح ملكا للاخرين يراه كل من وجهته، فيثرى ويثرى ،وفقنا الله جميعا الى ما يحب ويرضى.
مصطفى الخطيب